كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسبب عن هذه المعرفة قوله تعالى مشيرًا بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أيّ آخذ كان {فيؤخذ بالنواصي} أي: منهم وهي مقدمات الرؤوس {والأقدام} بعد أن يجمع بينها فيسحبون بها سحبًا من كل ساحب أقامه الله تعالى لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار؛ وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره وعنه يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره، ثم يلقى في النار؛ وفعل بالكافر ذلك ليكون أشدّ لعذابه؛ وقيل: تسحبه الملائكة إلى النار تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المنعم عليكما الذي دبر مصالحكم بعد أن أوجدكم {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما وعد أن يفعل من الجزاء في الآخرة لكل شخص بما كان يعمل في الدنيا أو غير ذلك من الفضل؟.
{هذه جهنم} أي: يقال لهم إذا ألقوا فيها هذه جهنم {التي يكذب} أي: ماضيًا وحالًا ومآلًا استهانة؛ ولو ردّوا إلى الدنيا بعد إدخالهم إياها لعادوا لما انهوا عنه.
{بها المجرمون} أي: المشركون الحقيقون بالإجرام، وهو قطع ما من حقه أن يوصل وهو ما أمر الله تعالى به وخص هذا الاسم إشارة إلى أنها تلقاهم بالتجهم والعبوسة والكلاحة والفظاعة كما كانوا يفعلون مع الصالحين عند الإجرام المذكور.
{يطوفون بينها} أي بين درك النار {وبين حميم آن} أي: حارمتناه في الحرارة وهو منقوص كقاض؛ يقال: أنى يأني فهو آن؛ كقضى يقضي فهو قاض؛ والمعنى أنهم يسعون بين الحميم والجحيم، فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآن الذي صار كالمهل؛ وهو قوله تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل} [الكهف].
وقال كعب الأحبار: وادٍ من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقًا جديدًا، فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم آن}.
فإن قيل: هذه الأمور ليست نعمة؟ فكيف قال عز وجل: {فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن أيها الثقلان إليكما {تكذبان} أجيب: من وجهين:
أحدهما: أن ما وصف من هول يوم القيامة وعقاب المجرمين فيه زجر عن المعاصي وترغيب في الطاعات، وهذا من أعظم النعم؛ روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى على شاب يقرأ في الليل {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [الرحمن].
فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ويحك يا فتى منها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء من بكائك».
الثاني: أنّ المعنى إن كذبتم بالنعمة المتقدّمة استحقيتم هذه العقوبات وهي دالة على الإيمان بالغيب، وهو من أعظم النعم.
ولما عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم وقدمه لما اقتضاه مقام التكذيب من الترهيب، وجعله سابعًا إشارة إلى أبواب النار السبع، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة، وجعله ثامنًا على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال تعالى: {ولمن خاف} أي: من الثقلين ووحد الضمير مراعاة للفظ من إشارة إلى قلة الخائفين {مقام ربه} أي: قيامه بين يدي ربه للحساب بترك المعصية والشهوة؛ قال القرطبي: ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله تعالى وهو كالأجل في قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم} [الأعراف].
وقوله تعالى في موضع آخر: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} [نوح].
وقال مجاهد: هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافته عز وجل. {جنتان} أي: لكل خائف جنتان على حدة. قال مقاتل: جنة عدن وجنة النعيم وقال محمد بن علي الترمذي: جنة بخوف ربه وجنة بترك شهوته؛ وقال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض؛ وقيل: جنتان لجميع الخائفين؛ وقيل: جنة لخائف الإنس وأخرى لخائف الجنّ فيكون من باب التوزيع؛ وقيل: مقام هنا مقحم كما تقول أخاف جانب فلان، وفعلت هذا لمكانك، وأنشد:
................ ونفيت عنه ** مقام الذئب كالرجل اللعين

يريد ونفيت عنه الذئب؛ قال ابن عادل: وليس بجيد لأنّ زيادة الاسم ليست بالسهلة؛ وقيل: إنّ الجنتين جنته التي خلقت له وجنة، ورثها؛ وقيل: إحدى الجنتين منزله والأخرى منزل أزواجه كما يفعل رؤساء الدنيا؛ وقيل: إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه؛ وقيل: إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها؛ وقال الفراء: إنها جنة واحدة وإنما ثنى مراعاة لرؤوس الآي؛ وأنكر القتيبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون وإنما قال: تسعة عشر مراعاة لرؤوس الآي؛ وقيل: جنة واحدة وإنما ثنى تأكيدًا كقوله تعالى: {ألقيا في جهنم} [ق].
وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا أن يبلغه الله تعالى إليه إلا أن يبلغه الله تعالى الجنة» أخرجه الترمذي. قوله أدلج الإدلاج مخففًا سير أول الليل، ومثقلًا سير آخر الليل؛ والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أوّل الأمر فإن من سار في أوّل الليل كان جديرًا ببلوغ المنزل.
روى البغوي بسنده عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} قلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء».
فائدة: قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أنّ من قال لزوجته إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق إنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله تعالى وحياء منه؛ وقاله سفيان الثوري وأفتى به. هذا ومذهب الشافعي أنه لا يحنث إذا كان مسلمًا ومات على الإسلام.
وقال عطاء: نزلت هذه الآية في أبي بكر حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين أبرزت؛ وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبنًا على ظمأ فأعجبه فسأل عنه، فأخبر عنه أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال: رحمك الله لقد أنزلت فيك آية وتلا عليه الآية.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المربي لكما بإحسانه الكبار التي لا يقدر أحد على شيء منها {تكذبان} أبتلك النعمة أم بغيرها من نعمة التي لا تحصى؟.
ثم وصف الجنتين بقوله تعالى: {ذواتا} أي: صاحبتا أو خبر لمبتدأ محذوف أي: هما ذواتا، وفي تثنية ذات لغتان الردّ إلى الأصل، فإنّ أصلها ذوية فالعين واو واللام ياء لأنها مؤنثة ذوو الثانية التثنية على اللفظ فيقال ذاتا. وقوله تعالى: {أفنان} فيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع فنن كطلل وهو الغصن المستقيم طولًا تكون به الزينة بالورق والثمر وكمال الانتفاع، قال النابغة الذبياني:
بكاء حمامة تدعو هديلا ** مفجعة على فنن تغني

وفي الحديث: «أهل الجنة مرد مكحولون الوفانين» يريد الأفانين وهو جمع أفنان وأفنان جمع فنن من الشعر شبه بالغصن ذكره الهروي. وقال قتادة: {ذواتا أفنان} أي: ذواتا سعة وفضل على سواهما.
والوجه الثاني: أنه جمع فن وإليه أشار ابن عباس. والمعنى ذواتا أنواع وأشكال وقال الضحاك: ألوان من الفاكهة واحدها فنّ إلا أنّ الكثير في فنّ أن يجمع على فنون: وقال عطاء كل غصن فنون من الفاكهة، ولذا سبب عنه قوله تعالى: {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما والمدبر لكما {تكذبان} أبتلك النعم من وصف الجنة الذي جعل لكم من أمثاله ما تعتبرون به، أم بغيرها؟.
ولما كانت الجنان لا تقوم إلا بأنهار قال تعالى: {فيهما عينان تجريان} أي: في كل واحدة منهما عين جارية قال ابن عباس تجريان: ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة؛ وعن ابن عباس أيضًا والحسن: تجريان بالماء الزلال إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل؛ وقال عطية: أحدهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين؛ وقيل: تجريان من جبل من مسك قال أبو بكر الوراق: فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخالفة الله عز وجل فتجريان في أي مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كلّ غصن منها وإن زاد علوها.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المالك لكما والمحسن إليكما {تكذبان} أبتلك النعم التي ذكرها وجعل لها في الدنيا أمثالًا كثيرة أم بغيرها؟.
{فيهما} أي: الجنتين {من كل فاكهة} أي: تعلمونها أو لا تعلمونها {زوجان} أي: صنفان ونوعان قيل: معناه أنّ فيهما من كلّ ما يتفكه به ضربين رطبًا ويابسًا؛ وقال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرّة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو.
فإن قيل: قوله تعالى: {ذواتا أفنان} و{فيهما عينان تجريان} و{فيهما من كل فاكهة زوجان} كلها أوصاف للجنتين فما الحكمة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} مع أنه تعالى لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات؛ بل قال تعالى: {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} مع أنّ إرسال الشواظ غير إرسال النحاس؟
أجيب: بأنه تعالى جمع العذاب جملة، وفصل آيات الثواب ترجيحًا لجانب الرحمة على جانب العذاب، وتطييبًا للقلب وتهييجًا للسامع فإن إعادة ذكر المحبوب وتطويل الكلام في اللذات مستحسن.
فإن قيل: فما وجه توسط آية العينين بين ذكر الأفنان وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأعصان، والمناسبة ألا يفصل بين آية الأغصان والفاكهة؟
أجيب: بأنّ ذلك على عادة المتنعمين إذا خرجوا متفرجين في البستان؛ فأوّل قصدهم الفرجة بالخضرة والماء ثم يكون الأكل تبعًا.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} التي ادخرها الموجد لكما المحسن إليكما {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما فوضه إليكم من سائر النعم التي لا تحصى.
ولما كان التفكه لا يكمل حسنه إلا مع التنعم من طيب الفرش وغيره؛ قال تعالى مخبرًا عن هؤلاء الذين يخافون مقام ربهم {متكئين} أي: لهم ما ذكر حال الاتكاء، والعامل في الحال محذوف أي يتنعمون متكئين {على فرش} وعظمها بقول تعالى مخاطبًا للمكلفين بما يحتمل عقولهم وإلا فليس في الجنة ما يشبهه على الحقيقة شيء من الدنيا {بطائنها من استبرق} وهو ما غلظ من الديباج؛ قال ابن مسعود: وأبو هريرة: إذا كانت البطائن التي تلي الأرض هكذا، فما ظنك بالظهارة؟.
وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من استبرق فما الظاهر؟ قال: هذا مما قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين} [السجدة].
وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأمّا الظواهر فلا يعلمها إلا الله تعالى؛ ونظير ذلك في الجنة قوله تعالى: {عرضها السموات والأرض} [آل عمران].
وأمّا الطول فلا يعلمه إلا الله عز وجلّ، لكن قال القرطبي: وفي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ظواهرها نور يتلألأ». وقيل: الظهائر من السندس. وعن الحس البطائن: هي الظواهر وهو قول الفراء. وروي عن قتادة: والعرب تقول للبطن ظهر فيقولون: هذا بطن السماء وظهر الأرض. وقال الفراء: قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأنّ كل واحد منهما يكون وجهًا، والعرب تقول هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كلّ واحد منهما قوم كالحائط بينك وبين قوم وعلى أديم السماء؛ وقال ابن عباس: وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ماء الظواهر.